boundary 2

– آمال قرامي
سردية ‘جهاد النكاح’ في مرحلة الانتقال الديمقراطي التونسي

آمال قرامي –

 سردية ‘جهاد النكاح’ في مرحلة الانتقال الديمقراطي التونسي

English | Français

نهضت النّساء في كلّ من تونس، ومصر، واليمن، وليبيا وغيرها من البلدان التي عاشت التحولات السياسية-الاجتماعية بأدوار هامّة، وطالبن بحقوقهنّ الاجتماعية والسياسية. واللافت للنظر أنّ هؤلاء صغن خطاباتهن بلغة معاصرة وحداثية تنهل من معين حقوق الإنسان كالعدالة ،والحريّة، والمساواة، والديمقراطية. غير أنّ مرحلة ما بعد “المدّ الثوري” جاءت محمّلة بتحولات تتعارض مع المُثل، والتصورات الأصلية التي كانت قوى التغيير تحلم بها. فما إن حلّت سنة 2013 حتّى تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية أحد انعكاسات “رياح التغيير” والمتمثّلة في تضاعف عدد النّساء التونسيات ‘المهاجرات إلى بلاد الشام’. وتكمن غاية هؤلاء من السفر في مؤازرة المقاتلين الإسلاميين نفسيّا وجسديّا بما في ذلك عرض خدمات جنسية عرفت فيما بعد ب ‘جهاد النكاح’ أو الجهاد الجنسي’.

وقد أثار ‘جهاد النكاح’ جدلاً واسعاً في المجتمع التونسيّ، وكشف عن تباين في الآراء والمواقف. فبينما أنكر عدد من نواب حزب النهضة وجود ما يسمّى ب ‘جهاد النكاح’ متهمين النظام السوري وقوى الثورة المضادة ب ‘صناعة’ هذه الدعاية لتشويه المعارضة السورية من جهة، والترويكا (حزب النهضة، وحزب المؤتمر، وحزب التكتّل) الحاكمة في تونس، من جهة أخرى رأى آخرون أنّ اللواتي انخرطن في ‘جهاد النكاح’ لا يمثلن إلاّ مجموعة قليلة من الشابات اللواتي وقعن ضحيّة التجنيد الدّيني وعملياًت”غسل الدماغ’ ولسن  في الحقيقة إلاّ ضحايا الجهل.

ولكنّ بيان وزارة الداخلية بشأن سفر مجموعة من الشابات التونسيات  إلى سوريا أكدّ على أن هؤلاء يسافرن بهدف ممارسة ‘ جهاد النكاح’. وفي السّياق نفسه أقرّ بعض الصحفيين بتوصلهم إلى معلومات تشير إلى وجود بعض الحالات وتثبت في الآن نفسه تعقّد هذا الموضوع. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ إذ ظلّت وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة تنشر أخباراً بشأن انشغال العائلات التي اكتشفت سفر بناتها إلى سوريا بهدف مؤازرة ‘الجهاديين’ في سوريا.

نروم من خلال هذا العمل الإجابة عن الأسئلة التالية: ما معنى جهاد النكاح؟ وما هي مختلف السرديات التي صيغت حوله إن كانت رسمية أو من صناعة الإعلام أو مرتبطة بشهادات أدلى بها أحد أقرباء الضحايا؟

الكلمات المفاتيح: الجهاد، النّساء، الجنسانية، الأيديولوجيا

ما معنى ‘جهاد النكاح’؟

*تعريف النكاح

النكاح، بمعنى الزواج هو من المصطلحات المألوفة لدى العرب. فعن عائشة أمّ المؤمنين رواية معروفة حول أنكحة العرب [1] التي كانت شائعة قبل ظهور الإسلام. والناظر في مختلف النّصوص التاريخية والدّينية التي دونت فيما بعد، ينتبه إلى وجود خلاف مذهبي حول نوع من الزواج عرف ب ‘نكاح المتعة ‘إذ اعتبر علماء السنّة أنّ المتعة كانت من الممارسات المسموح بها في حياة الرسول(صلعم) ولكنّه في ما بعد أوقف العمل بها. بيد أنّ علماء الشيعة ألحوا على أنّ الرسول لم يمنع نكاح المتعة مستدلّين على ذلك بعدد من الأحاديث التي وردت في المصادر السنية والشيعية على حدّ سواء. جاء في صحيح مسلم في هذا الصدد :

وحدثنا الحسن الحلواني حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال قال عطاء قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال نعم استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.”[2]

ويذهب بعضهم إلى التأكيد على أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب هو الذي أوقف العمل بنكاح المتعة وليس الرسول. ورد في صحيح مسلم في هذا السّياق:” حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة قال كان ابن عباس يامر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء وإن القرآن قد نزل منازله ف أتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وأبتوا نكاح هذه النّساء فلن أوتى برجل نكح أمراًة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة وحدثنيه زهير بن حرب حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة بهذا الإسناد وقال في الحديث فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم[3]

لم يكتف الشيعة بإضفاء الشّرعية على نكاح المتعة بل إنّهم اهتموا بضبط شروطه وأحكامه. ولكنّ هذه الجهود التقنينية لم تحل دون استمرار الجدل حول هذا الموضوع بين مختلف الأيديولوجيات، والمذاهب الفقهية السنية والشيعية. ومن المفيد لفت الانتباه إلى أنّ هذا الجدل حول نكاح المتعة أو زواج المتعة كشف النقاب عن منزلة المرأة في المجتمعات البطريكية ووضّح في ذات الوقت، كيف دافع العلماء عن الامتيازات الذكورية. فمن خلال حماية البنية الاجتماعية ،وتنظيم العلاقات الجنسانية كرّس العلماء حقّهم في مراقبة أجساد النّساء.

أمّا في العصر الحديث فإنّنا نجد ظهور أنواع جديدة من ‘الزّيجات’ التي تعقد لغاية جنسانية بحتة كالزواج العرفي، ونكاح المسيار ،ونكاح البوي فراندBoy friend وقد استشرت هذه الأشكال الجديدة من الأنكحة في البدء، في البلدان الخليجية كالسعودية، ومصر، واليمن ولكنّها بدأت تظهر مؤخرا في “تونس ما بعد الثورة”. فبدا الزواج العرفي ممارسة مغرية في نظر طلبة الجامعات، وبعض القيادات الإسلامية وغيرهم لأسباب مختلفة. ويعدّ الزواج العرفي بالنسبة إلى الشبّان  المسلمين العرب طريقة مثلى لممارسة الجنس بطريقة حلال و’شرعية’ .والملاحظ أنّ هذه الأنكحة غير موثقة ويتكتم حولها حتى فلا يعلم بها إلاّ النذر من الأصدقاء، ويتفطن الأهل إلى وجودها .

وبالرغم من أنّ الزواج العرفي يعفي الزوج من الإقامة مع زوجته، ولا يلزمه بالنفقة عليها فإنّ عددا من الشابات يعتقدن أنّ الزواج العرفي هو الحلّ المناسب لمشاكلهن اليومية. ولا غرو أن يعتبر الشبّان الذين يبحثون عن تلبية احتياجاتهم الجنسيّة وليست لهم القدرة على التقيد بما تفرضه مؤسسة الزواج من التزامات بسبب الدراسة، وخاصة في الغرب أو لأسباب اقتصادية أنّ الزواج العرفي هو الذي يسمح لهم ،بأن يعيشوا حياة جنسية عادية لاسيما بعد أن أضفت بعض الهيئات الدّينية في بلدان مختلفة الشّرعية المطلوبة على مثل هذه العلاقات. ففي سنة 1990 اعترف الرئيس الإيراني هاشمي رافسنجاني بحقّ المرأة في الاستمتاع بالجنس معتبرا أنّ من حقّها الشرعي أن تأخذ المبادرة وتعقد زواج متعة. وفي السّياق نفسه أصدر المجمع الفقهي الإسلامي بالسعودية فتوى تنص على أنّ الزواج العرفي وزواج البوي فرند من الأنكحة الحلال.

غير أنّ أغلب الناشطات الحقوقيات والنسويات في ‘العالم الإسلامي’ يؤكّدن على أنّ هذه الزّيجات هي بمثابة وسائل لتنظيم جنسانية الرجال دون أدنى اهتمام بما تخسره النّساء من حقوق. فلئن كان الرجل مطالبا بتقديم المهر فإنّه ليس مجبرا على النفقة على الزوجة، ولا توارث بينهما .وفق هذا الطرح يعتبر زواج المتعة لا إحياء لممارسات قديمة فقط بل هو تهديد للأسرة وللمرأة بشكل خاصّ. وتذهب بعض الناشطات إلى اعتبار زواج المتعة أو الزواج العرفي …مؤسسة تشجّع على البغاء بل إنّ من النسويات من تذهب إلى أنّ هذه الممارسات تؤكد بما لا يدع مجالا للشكّ على أنّ الرجال هم بالأساس ذوات جنسية وأنّ النّساء هنّ أدوات جنسية.

*الجهاد

يميّز العلماء بين نوعين من الجهاد :

1-الجهاد السلمي داخلياً أو خارجياً، وهو قائم على مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء في محاولة لاكتساب صفة المسلم الصالح، والمؤمن الحقيقيّ. كما أنّ هذا الجهاد يتّخذ شكلاً دعوياً، ويعتمد على بذل الجهد في سبيل القيام بالأعمال الخيرية في الدنيا تقرّبا إلى الله.

2-الجهاد بمعنى القتال إذ يسمح للمسلمين باستعمال القوة والاستعداد العسكري لمواجهة الأعداء في حالة الحرب ،ويندرج هذا القتال في إطار الدفاع عن العقيدة، وهو في حكم الواجب على كلّ مسلم قادر، ويستثنى من ذلك المستضعفون كالشيوخ والنّساء وأصحاب العاهات ،والأطفال .وقد  ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال لأصحابه  لمّا رجعوا من الغزو: “رجعنا من الجهاد الأصغر ، إلى الجهاد الأكبر وهو يعني العودة من أرض المعركة إلى الجهاد الأكبر المتمثّل في ضبط النفس ومقاومة النوازع والأهواء.

والجدير بالذكر أنّ معاني الجهاد توسّعت وتعدّدت على مرّ العقود الأخيرة [4]. فالمتطرّفون كالسلفية الجهادية  على وجه الخصوص، نجحوا في اختزال دلالات الجهاد في القتال، واعتبروه الفريضة الغائبة التي آن أوان إحيائها. ولا مهرب في نظرهم من القيام بهذا الواجب فهو الحلّ الوحيد لإقامة الدولة الإسلامية، والحفاظ عليها. وهكذا يغدو الجهاد لا قتالا من أجل إعلاء شأن الإسلام فحسب بل هو أيضا صراع من أجل الاستحواذ على السلطة. ومنذ الحرب التي شنّت ضدّ أفغانستان ،والعراق، ومؤخرا سوريا صارت الدعوة إلى الجهاد مغرية بالنسبة إلى مئات المتطوعين من العالم الإسلامي، والمسلمين القادمين من مختلف البلدان الغربية . وهؤلاء تبنّوا هذه القضية معتبرين أنّ الجهاد ليس إلاّ فعلا تحريريا يتطلّب مشاركة فعّالة من كلّ المسلمين.

*جهاد النكاح

   من الثابت أنّه لا وجود لتعريف، ودلالة محدّدة لجهاد النكاح ولا أثر له في التاريخ الإسلامي أو الأدبيات الإسلامية. غاية ما يعثر عليه المرء التعريف الوارد في وكيبيديا والذي يقدّمه عدد من المهتمّين بالموضوع: فهو “جهاد النكاح أو نكاح الجهاد” ،وقد حافظ هذا المصطلح على طابعه الجدلي، وهو يحيل على نساء المذهب السني اللواتي وهبن أنفسهن لمؤازرة المجاهدين من أجل إقامة شرع الله.[5]

   لا غرو أنّ جهاد النكاح ارتبط بفتوى نسبت إلى الشيخ السعودي الوهابي محمّد العريف سنة 2012. فهو الذي طلب من نساء السنة مؤازرة المجاهدين في سوريا “بالرفع من معنوياتهم” . وتكمن الحجة الدّينيّة المقدّمة في هذا الصدد في “أنّ الضرورات تبيح المحظورات” في بعض السّياقات المخصوصة.  وبالرغم من أنّ العريفي أنكر علاقته بهذه الفتوى فإنّ انعكاساتها كانت هامّة. والواقع أنّ إصدار هذه الفتوى لا يعدّ في اعتقادنا، أمراً غريباً إذ ينبغي التذكير بالفتاوى التي صدرت طيلة عقد من الزمن على الأقلّ بشأن النّساء، والتي توضّح مدى تضاعف سلطة العلماء واتّساع تأثيرهم في الناس، وكراهيتهم للنساء. والناظر في هذه الفتاوى يدرك كيف وظّف الدّين لشرعنة كلّ الممارسات التي تهدف إلى إقامة نظام جندري جديد وفرض علاقات اجتماعية جديدة. وعلى هذا الأساس يتحول العنف المبني على أساس الجندر إلى عنف مقبول وشيئا فشيئا مشروع :تشرّع له مثل هذه الخطابات الدّينية.

   وبالرجوع إلى الأحداث الجارية في سوريا نتفطّن إلى أنّ الجهاد باعتباره أنشطة ذكورية قد وطّد ركائز الهيمنة الذكورية . فالرجال القادمون من كلّ أصقاع العالم اندفعوا نحو المعركة، وفي أذهانهم الصور الأصلية archetypal للرجل وللأدوار التي يقوم بها المقاتلون المجاهدون الذين يلتزمون بالدور البطولي، ويضحون بذواتهم في سبيل نصرة الإسلام. وفي المقابل لا يُطلب من النّساء إلاّ النهوض بأدوارهنّ ‘الطبيعية’القائمة على أداء الخدمات بما في ذلك تقديم الخدمة الجنسيّة  والتحول إلى ‘جواري الجنس’.

ولكن ما هو الدور الموكول إلى المرأة في الجهاد المعاصر؟

تشير كتب التاريخ إلى أنّ المنظومة الفقهية لم تكن تسمح للنساء بأن يقاتلن باستثناء الحالات التي تكون فيها الأمّة في خطر، ومع ذلك لا نجد منعاً صريحاً لمشاركة المرأة في القتال. ويعلّل الفقهاء منع النّساء من الجهاد بأنّ جهادهن يتمثّل في الحجّ، وطاعة الزوج ،وخدمة الأهل فتلك هي واجبات النّساء. ويذهب الشيعة إلى اعتبار أنّ جهاد المرأة هو في معاناة الزوج، وتحمّل غيرته . ولئن رغب المؤرخون في تهميش الدور الذي اضطلعت به النّساء في الفضاء العام فإنّ النسويات المسلمات والمتخصّصات في تاريخ النّساء أثبتن وجود نساء شاركن في الغزوات .فعلىة مصطفى مبارك جمعت في مؤلفها “صحابيات مجاهدات’ أكثر من سبع وستين  اسما لنساء شاركن في المعارك. فكنّ داعمات للمقاتلين، ومحفّزات لهم، وموفّرات خدمات التطبيب والعون ،وكنّ بالفعل نماذج ،واستطعن انتزاع إعجاب جميع المسلمين. ولكن لم يعرف عنهن تسليم أجسادهن للمجاهدين.

ولكن ما الذي يمكن استنتاجه من خلال الروايات التاريخيّة؟

-إنّ مراقبة الذات تعدّ من أوكد الواجبات الأخلاقية المفروضة على كلّ مسلم، وهذا الأمر يتعارض كليّا مع الربط الجديد بين الجهاد باعتباره فعلا في الواقع والجنسانية.

-إنّ الأمّة ملزمة بحماية النّساء باعتبار أنّه ينظر إليهن على أساس أنّهن ضعيفات بل أكثر من ذلك إنّ ضعفهن هو الذي يبرّر وضعهن تحت المراقبة: مراقبة الأسرة ومراقبة المجتمع ككلّ.

-يعدّ الجهاد نشاطا مجندرا فالرجل يبذل ثروته ونفسه ،ويضحي بكلّ ما يملك حتى آخر رمق في حياته في سبيل الله. أمّا جهاد المرأة فهو في مساعدة زوجها والأمّة . ومن شأن  هذا التصور  أن يحافظ على المقابلات الثقافية المتضادة: الرجل/الفضاء العام، المرأة/الفضاء الخاص، المرأة/الحياة، الرجل/الموت.

-توضّح الأدبيات المعادية للمرأة أسباب استبعاد الرجال النّساء من أرض المعركة. فبالنسبة إلى الرجل المقاتل تعدّ حور العين المحفّز الأساسي على الجهاد. أمّا نساء الدنيا  فإنّهن من المعوقات ذلك أنّهن يشددن الرجل إلى الأرض، والحال أنّه منجذب نحو العالم الأخروي والأفضل.

-إنّ الاطلاع على النّصوص التاريخية ،وخاصّة كتب الجهاد يؤكد على أنّها ليست المرّة الأولى التي يتم فيها سطو الجماعات السياسية والدّينية على مصطلح الجهاد .فعلى امتداد العصور استعمل الجهاد لتبرير مختلف أشكال العنف. وفي أغلب الحالات استعملت الجماعات الإسلامية الجهاد لمواجهة الأنظمة القائمة. ويعتبر عدد من المفكّرين التنويريين أنّ هذا التفسير السيئ لآيات الجهاد يتعارض مع القيم الإسلامية.

-إنّ المتأمّل في خطب الحبيب بورقيبة حول التنمية في تونس ينتبه إلى مدى إلحاحه على أنّ المعنى الحقيقي للجهاد هو في المكابدة اليومية من أجل تغيير الظروف الاجتماعية، والمساهمة في التقدّم والتنمية. وعندما نستحضر هذا المعنى نرى أنّ جهاد النّساء يجب أن يكون جهادا ضدّ الفقر والأميّة . من كان يتخيّل أنّه بعد أكثر من خمسين سنة من إصدار مجلّة الأحوال الشخصية 1956ستقرّر فئة من التونسيات  السفر إلى بلد المعارك الضارية :سوريا ليتحولن إلى إماء في خدمة مقاتلين يحلمون باستعادة الماضي المظلم ؟فهل هو امر راجع إلى جهل بالنّصوص الدّينيّة أم هو البحث عن هويّة جديدة؟

2- سرديات متعدّدة وتفسيرات مختلفة   

*الرواية الرسمية

ارتبط الإخبار عن وجود ممارسة جهاد النكاح بالجهود التي بذلتها وزارة الداخلية التونسية في إطار مكافحة الإرهاب، ومواجهة الجماعات المتحصّنة بجبل الشعانبي (الوسط الغربي على مقربة من الحدود الجزائريّة) والمنتمية إلى القاعدة بشمال إفريقيا. وقد أقرّت حكومة الترويكا بأنّ هذه الممارسة انطلقت مع بروز بعض الفتيات المساندات للجهاد باعتباره حركة معولمة ثمّ انتشرت بعض ذلك مع تطوع بعض الفتيات لمؤازرة المجاهدين في سوريا.[6] وقد اثير جدل واسع حول هذا الموضوع يوم 13 سبتمبر 2013  بمناسبة مساءلة المجلس التأسيسي لوزير الداخلية آنذاك .وقد صرح ‘بن جدو’ بأنّ مجموعة من التونسيات سافرن إلى سوريا وانخرطن في ممارسة جهاد النكاح وهناك  من مارست الجنس مع عشرين ، وثلاثين وحتى مائة مقاتل. وفي 6 أكتوبر أعلنت الوزارة أنّ من بين هؤلاء الفتيات من عدن إلى تونس وهن حوامل . وقد أكد الوزير على أنّ عددهن لا يتجاوز الخمس عشرة فتاة موضّحاً أنّ من بينهن من أجبرن على ممارسة الجنس مع أكثر من مقاتل [7]وهذا نتيجة من بين نتائج ‘الربيع العربي’ والانتقال الديمقراطي الذي فتح فيه المجال لبروز التطرّف، وشبكات استقطاب الشباب، وتسفيره للجهاد في سوريا إلى جانب المجموعات المعارضة لنظام بشّار بصفة عامّة ثمّ تنظيم داعش على وجه الخصوص، هذا بالإضافة إلى شبكات المتاجرة بالنّساء لغايات جنسية.

*قصص مجاهدات النكاح وشهاداتهن المنشورة في وسائل الإعلام

في 30 ماي 2013 استضافت القناة الخاصّة ‘تونسنا’، في برنامج “مرا وعليها الكلام” الذي يخصّص للتعريف بتميّز النّساء في بعض المجالات، فتاة أقرّت بأنّه تمّ تجنيدها للسفر إلى سوريا لتمارس نكاح الجهاد وتؤازر المقاتلين. وقد صرّحت عائشة فتاة العشرين سنة، أنّ أمراًة استقطبتها داخل الجامعة وهي مكلّفة بالاضطلاع بهذا الدور داخل الكليات بهدف تسفير البنات لمؤازرة المقاتلين في سوريا بل أكثر من ذلك تسعى المستقطبة إلى إقناع ضحاياها بأنّهن سيكنّ” شهيدات في سبيل رفع راية الإسلام”. و كانت عائشة مع أربعة عشرة فتاة ممن اقتنعن بالذهاب إلى سوريا لممارسة النكاح. غير أنّ انتباه والد عائشة لهذا المخطط جعله يحاول إقناعها بأنّ مشروع السفر إلى سوريا يتعارض بشدّة مع الرسالة الإسلامية مستعينا في ذلك بقريباته لإرجاعها إلى الرشد.[8]

وفي يوم 23 جويلية 2014 اعترف ‘جهادي’ رجع إلى تونس يدعى ‘أبو قصي’ في برنامج’ لاباس ‘على قناة الحوار التونسي الخاصّة بأنّ الحكايات التي تروى حول جهاد النكاح صحيحة [9]وفي السّياق نفسه استجوبت بعض وسائل الإعلام المحلية عدداً من العائلات التي فقدت أيّة صلة ببناتها اللواتي ذهبن إلى سوريا وأعلن رئيس جمعيّة العالقين ببلدان النزاع أنيس كوباجي أنّ طريقة استقطاب الفتيات تتم في الانترنت ،وعن طريق عدد من الجمعيات الخيريّة المورّطة في تسفير الفتيات إلى سوريا بهدف مؤازرة المقاتلين.[10]

وفي السّياق نفسه نشرت بعض الصحف خبر زوج طلّق زوجته قبل سفرهما إلى سوريا حتى يمكّنها من ممارسة جهاد النكاح وانتشر أيضا فيديو على شبكة الانترنت وفي شبكات التواصل الاجتماعي يخبر فيه والدا ‘رحمة’ ذات السبع عشرة سنة  أنّها فرت من بيت عائلتها ذات صباح ، وبلغهما أنّها سافرت إلى سوريا لممارسة جهاد النكاح ِوقد تمكّنت رحمة بعد مدّة من العودة إلى أهلها .وقد حرص هؤلاء على حجبها عن أنظار الصحفيين  مصرّحين أنّ ابنتهم ليست متشدّدة دينيا ولكن وقع التغرير بها إذ تأثرت بالطلبة المنتمين إلى تيار السلفية الجهادية . ولعلّ هؤلاء هم الذين تمكّنوا من إقناعها بضرورة السفر إلى سوريا لمؤازرة المقاتلين .

وهكذا صار من المعلوم انتشار قصص جهاد النكاح، وانشغلت عدد من الأسر بالتأثير الذي يمارسه الدعاة المتشدّدون ذوو الشخصياًت الكارزماتية على أبنائهم،[11]وهو امر يثبت الدور الهامّ الذي نهضت به وسائل الإعلام في السّياق الجديد التونسي حيث أطلّ الإرهاب برأسه. و لم ينفكّ الإعلام عن متابعة أخبار النّساء اللواتي قدّمن خدمات “للسلفيين الجهاديين” في مختلف المدن والأرياف بما في ذلك الخدمات الجنسيّة، وهو امر يؤكّد على تعاون بعض الناس مع المجموعات السلفية الجهادية.

غير أنّ ما يسترعي الانتباه فيما نقلته وسائل الأعلام من قصص أنّها ارتبطت بالأساس بالضحايا المغرّر بهن، ولم ترد أيّة شهادة على لسان أمراًة تدافع عن جهاد النكاح وتتبنّاه، وعلى هذا الأساس نعتبر أنّ المقابلات الصحفية المقدّمة في الفضائيات أو المنشورة في بعض الصحف أو في بعض مواقع الانترنت “ضعيفة” وتفتقر إلى المصداقية ويعسر الاحتجاج بها. فالفتيات صورن في الغالب، على أنّهن ضعيفات، ويمكن التلاعب بعقولهن بيسر ، وهنّ يعانين من بعض الأزمات العاطفية ويفتقرن إلى المعرفة المتينة بالنّصوص الدّينية.

*سردية جهاد النكاح

يعكس تناول جهاد النكاح في سياق الاستقطاب الحادّ بين الإسلاميين و’العلمانيين ‘في مرحلة الانتقال الديمقراطي حالة من التوتر، والغضب، والتراشق بالتهم ،وأزمة الثقة المتبادلة بين مختلف الفاعلىن السياسيين. فبينما أصرّ قياديو حزب النهضة على إنكار وجود جهاد النكاح تمسّك بعض الأتباع من النهضة بأنّ العلمانيين هم الذين روجوا لهذه الدعاية حجّتهم في ذلك ما نشر في الإعلام العالمي. ففي 7 أكتوبر 2013 نشرت الصحيفة الألمانية دير سبيغل Der Spiegel  أنّ جهاد النكاح في سوريا ليس إلاّ محاولة تضليلية يقوم بها نظام الأسد حتى يبعد الرأي العام العالي عن متابعة الجرائم التي هو بصدد ارتكابها. أمّا ماهر نانا رئيس منظّمة إئتلاف حقوق الإنسان من أجل سوريا فقد صرّح أنّ جهاد النكاح هو مجرد دعاية مضيفاً ‘ قد يكون بحوزة التونسيين بعض الحجج ولكنّي أعتقد أنّ هذه دعاوي باطلة صادرة عن وزارة الداخلية ومرتبطة بأجندا سياسية”[12].

وإذا عدنا إلى الأحزاب الديمقراطية أو العلمانية تبيّن لنا أنّ موقفها يندرج ضمن انتقاد السياسات التي اعتمدتها النهضة خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي  وعلى هذا الأساس اتّهمت القيادات النهضاوية  والجماعات السلفية  التي أسست الجمعيات الخيريّة بأنّ هدفها كان تنظيم سفر عدد كبير من الشبّان إلى سوريا.  وفق هذا الطرح أضحت النّساء ضحايا الجماعات الإسلامية المتشدّدة، وهنّ بحاجة إلينا حتى نحميهن من ‘الآخر’ حتى يتحرّرن، ويصبحن مساويات لبقية التونسيات . وهكذا تحول جهاد النكاح أو العنف الممارس على النّساء إلى موضوع سياسي. وكان على كلّ حزب أن يدافع عن نفسه، وأن يتّهم الحزب الآخر في الآن نفسه.

إنّ اعتبار المرأة ضحيّة النظام البطريكي والعنف الذكوري ليس أمراً جديداً على مستوى النقاش العامّ، والخطاب الشعبيّ بل إنّه كان مصاحبا لنضال الحركة النسائية، وحركة حقوق الإنسان طيلة قرنين من الزمن. غير أنّ أشكال العنف تنوعت خلال السنتين الأخيرتين (2013-2014) فبرزت صورة المرأة المسلمة التي تقوم بدور جنسيّ. ولهذا السبب يعتبر موقف حزب النهضة القائم على إنكار هذه ‘الظاهرة’ مفهوماً باعتبار أنّ صورة المرأة المنخرطة في جهاد النكاح تشوه صورة المسلمين عموما ،والأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى الحكم بصفة خاصّة. ولا يمكن أن يغيب عن ذهننا أنّ حزب النهضة خصّص وقتا كبيرا، و أنفق أموالا طائلة من أجل خلق صورة جديدة  تروج في الغرب على وجه التحديد، ولم تنفك القيادات عن التشبيك مع اللوبيات حتى يتم النظر إلى  حزب النهضة على أساس أنّه’الحزب الإسلامي المعتدل” وقد بذلت القيادات جهدا من أجل خلق مناخ حديد يمكّن التونسيين من العيش معا.

وبالرغم من  تصريح وزير الشؤون الدّينية نور الدّين الخادمي (المعروف بقربه من الجماعات السلفية،والذي تحوم حوله شبهة تقديم خطبة جمعة يحثّ فيها الشباب على الجهاد في سوريا )بأنّ وزارته ستراقب كلّ الأئمة الذين يشجّعون الشبّان على السفر إلى سوريا فإنّ التونسيين ظلّوا قلقين بشأن الموقف الرسمي للحكومة. وفي أفريل 2013قال مفتي الجمهورية التونسية عثمان البطيخ بلهجة غاضبة إنّ ثلاث عشرة فتاة سافرن إلى سوريا من أجل جهاد النكاح، واستغرب بطيخ من هذه الممارسات، ووصمها بأنّها بغاء وانحراف أخلاقي نتيجة تنشئة فاسدة. ولكن سرعان ما تمت إقالته من منصبه بعد هذا التصريح.[13]

أمّا فريد الباجي، وهو “شيخ” ديني برز بعد الثورة فقد صرّح لموفد البي بي سي أنّه يعرف عدداً من العائلات التي اكتشفت تورّط بناتها في نكاح الجهاد إمّا بالذهاب إلى جبل الشعانبي حيث يرابض المقاتلون أو السفر إلى سوريا  لمؤازرة ‘الجهاديين’  .والظاهر أنّهن يفعلن ذلك تطبيقا لما ورد في بعض الفتاوى أو لأوامر صادرة عن القيادات في المعارك الدائرة في سوريا.[14]

وفي نفس السّياق الذي تغلب عليه الضبابية، والتشويش برزت مواقف مختلفة للنسويات وللناشطات الحقوقيات. فمن هؤلاء من اعتبرن أنّ موضوع جهاد النكاح ليس إلاّ حجة دالة على النكوص، والسياسات الرجعية الصادرة عن الإسلاميين. بينما ذهبت أخريات إلى تكريس جهودهن للدفاع عن الضحايا اللواتي يعانين من اضطرابات اجتماعية-نفسية. وعلى هذا الأساس أدرجت هذه الفئة من النّساء في برنامج ضحايا العنف، وهو موقف يعكس هيمنة التصور الحقوقي، وتوظيف كلّ الاستراتجيات التي تهدف إلى تمكين الضحايا.

لقد تحدثت النسويات عن التحديات التي تواجه النّساء التونسيات بعد الثورة وانتقدن هذه الفئة القليلة من النّساء اللواتي قبلن بأن يتحولن إلى وسائل للترفيه الجنسي، والحال أنّهن ينتمين إلى بلد عرف بتشجيعه لحقوق النّساء ،ومنح فرصة ثمينة للتونسيات حتى يكن أنموذجا في المنطقة، ولكن يبدو أنّ المجتمع التونسي يعيش تحولا على مستوى منظومة القيم : من قيم الحداثة إلى معايير أشدّ محافظة.

ومن المفيد في هذا السّياق، تحليل بعض الشهادات التي أدلى بها عدد من المقاتلين الذين عادوا إلى تونس بعد أن شاركوا في المعارك الدائرة في سوريا . لقد قبل بعضهم الحديث في وسائل الإعلام عن نمط عيشهم هناك فزعموا أنّ النّساء التونسيات ما عدن يمثلن أنموذجا واستثناء في البلدان العربيّة  في ما يتعلّق بحقوقهن وتحرّرهن . فقد كنّ يمارسن نكاح الجهاد في سوريا مثلهن مثل الأخريات، بل أكثر من ذلك يقرّ عدد من هؤلاء الرجال بأنّهم مارسوا الجنس مع عدد كبير من النّساء. وممّا لاشك فيه أنّ رؤية النّساء الضعيفات اللواتي يكنّ بحاجة إلى حماية يعزّز شعور المقاتلين بالقوة ،ويدعم قدراتهم.

وإذا حلّلنا بعض روايات الرجال أدركنا أنّ أغلبها يعجّ بالمبالغات، وينوه بالأداء الجنسي المتميّز للمقاتلين. وهذا الأسلوب السردي هو في الواقع، جزء من الخطاب الذي يصرّ فيه أصحابه على أنّهم أصبحوا أبطالا بعد أن عاشوا سنوات من التهميش. وإذا اعتبرنا أنّ القيم الأساسيّة للعسكرة تقوم على “اكتساب السلطة من خلال الآخر” زال العجب. فهؤلاء المقاتلون يدافعون في الواقع، عن التقسيم الصارم بين أدوار الرجال والنّساء، والحدود القائمة على النظام المتضاد: الإيجابي/السلبي، المنطقي/الحسي، العقلي/اللاعقلي، …بهذا المعنى تعدّ الحرب ‘نشاطا ذكوريا’.’ أمّا رعاية الرجال فهي من واجبات النّساء. وممّا لاشك فيه أنّ الجهاديين’ هم بصدد بناء تعريفات محدودة للصفات الذكورية/الأنثوية .ومن خلال  فرض المعايير يدافع هؤلاء عن ايديولوجيا معيّنة بإمكانها أن توفّر لهم مبررات تدعم مأسسة التمييز والعنف ضدّ النّساء. ولا مكان داخل هذه الأيديولوجيا إلاّ لنساء في علاقة عضوية بالرجال باعتبارهن ضعيفات وبحاجة إلى حماية الرجال أو هنّ أجساد في خدمة الاستغلال الجنسي.

تقول كوليين بورك Colleen Burke:”تحتاج العسكرة إلى أيديولوجيا جندرية بقدر حاجتها إلى الجنود والأسلحة. إنّ العسكرة بحاجة إلى رجال يقبلون ويؤمنون بشدة أنّ أدوارهم تتمثّل في القتال، وهم راغبون في الامتثال  للأوامر حتى وإن كانت تؤدي إلى الموت. كما أنّ العسكرة بحاجة إلى نساء يقبلن أدوارهن ‘الخاصة ‘ التي تكون في علاقة بالرجال، ويضحين بأولادهن من أجل مصلحة البلاد ويحفزنهم على القتال كما أنّهن يكن على استعداد لتلبية احتياجات الجنود الجنسيّة.”[15]

ولئن نُظر إلى النّساء اللواتي مارسن جهاد النكاح في الغالب، على أنّهن ضحايا الرجال ، وهو أمر لا نشكك في أنّه ينطبق على بعض الحالات، فإنّنا نرجّح أنّ للنساء دوافع متعدّدة للقبول بممارسة جهاد النكاح كالبحث عن متعة المغامرة وهو دافع يتلاءم مع فئة المراهقات .ولكنّه لا يفسّر سبب اختيار هذا النشاط بالذات. وبالاعتماد على المواد التي يتم نشرها في مدونات الفتيات السلفيات التي أمكننا الاطلاع عليها، يلوح أنّ بعضهن يؤمنّ بالأيديولوجيا الدّينية، ويعتقدن أنّ الجهاد يفضي إلى نيل الثواب في الآخرة. وفق هذا الفهم نرجّح أنّ عدم اقتران ممارسة جهاد النكاح بالمقابل المادي يندرج في هذا الإطار الذي يعتبر أنّ من واجب المرأة دعم الرجال الذي يجاهدون في سبيل الله ،ويضحّون بأنفسهم من أجل الأمّة.

وإذا تأمّلنا في الخطابات التي تهدف إلى استقطاب الفتيات في الانترنت تبيّن لنا أنّها لا ترتكز بالأساس على الحجج الفقهية بل إنّها ببساطة تخاطب الحسّ التضامني لدى الناس. ومن ثمّة نعتقد أنّه ليس غريبا أن تعتقد بعض الفتيات أنّهن إذ يمارسن نكاح الجهاد إنّما يفعلن ذلك بدافع الإيمان بواجب مساعدة المقاتلين وشدّ أزرهم. وإذا دققنا النظر في معاني نكح بان لنا أن نكح المرأة، أي اعتمد عليها، وهو ما يتطابق في نظرنا، مع ما تعتقده بعض الفتيات من أنّهن يقدمن المساعدة.

لاشكّ أنّ المواد المنشورة في الانترنت توظّف لبناء خطاب هوية إسلامية معولمة، وتلحّ على وحدة الأمّة الإسلامية كما أنّها تركّز على التهديدات الخارجية. وما يلوح من خلال هذه الخطابات وغيرها من الخطابات المماثلة حول الهويّة في الكتابات الجهادية هو سردية الضحيّة التي تبرز معاناة المسلمين في كلّ بلدان العالم. وإذا اعتبرنا أنّ جهاد النكاح هو محاولة لإرساء مجتمع مواز مؤسس على ما يعتقد أنه الشريعة فإنّ الفتيات الممارسات لجهاد النكاح يقدّمن أنفسهن في صورة ‘الناشطات’ الداعمات لمشروع الخلافة ولا يعتبرن أنفسهنّ ضحايا سلبيات.

والثابت أنّ السرديات المختلفة والشهادات التي أدلت بها بعض النّساء والخطاب الرسمي الصادر عن وزير الداخلية في المجلس التأسيسي 2013 والتغطية الإعلامية لموضوع جهاد النكاح كلّها تؤدي إلى التمييز بين فئتين من النّساء:

-المجموعة الأولى من الشابات اللواتي اختطفن أو تم تجنيدهن أو أجبرهن أزواجهن على السفر إلى سوريا، وممارسة جهاد النكاح .وهنّ ضحايا الجماعات المتشددة الدّينية ،وكذلك شبكات المتاجرة بالنّساء . ولا يخفى أنّ الفقر ،والجهل ،والتهميش المستشري في بعض الجهات قد ساهم في جعل هؤلاء الفتيات فريسة سهلة بيد المتاجرين بالنّساء.

-المجموعة الثانية من النّساء تضمّ المقتنعات بأداء دور في الحرب. وهنّ يعتقدن أنّ هبة أجسادهن للمقاتلين ستسمح لهنّ بأن يتحولن إلى مجاهدات ولذلك نراهن يستعملن عبارات ‘أخوات الفراش’ ،ومجاهدات النكاح، ومؤزرات الإخوان.

لقد أشارت عدّة روايات إلى أنّ من النّساء من تطوعن لخدمة المجاهدين وهبة أجسادهن لهؤلاء سواء أكانوا في الداخل أم في الخارج ويذكّرنا الحديث عن هبة النفس للآخر بما كان معمولا به في مجتمع الدعوة المحمدية ومعترفا به .فقد ذكر عدد من العلماء أنّ من النّساء من عرضن أنفسهن على الرسول راغبات ومتمنيات أن يتزوجهن  بل إنّ الموضوع ورد في الآية القرآنية:” ﴿وأمراًةً مُّؤْمِنَةً إِن وهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ﴾الأحزاب 50” وقد فسّره ابن كثير بقوله:” وقوله’وأمراًة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها، أي : ويحل لك – يأيها النبي – المرأة المؤمنة إذا وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك[16]

ولا عجب أن تظهر هذه القراءة الحرفية للقرآن في المجتمعات الإسلامية، وأن يسيء البعض فهم المبادئ والركائز التي يقوم عليها الإسلام أو أن يسئ تفسير الآيات ولكن رغبة بعض النّساء في ممارسة جهاد النكاح إرضاء للمقاتلين يثير سؤالا رئيسا: من  المستمتع؟

بلا شكّ نحن إزاء إعادة تعريف للهوية الفردية فأجساد النّساء التي ظهرت في الفضاء العموميّ متحديات الشرطة في بداية الثورة صارت في متخيّل الجماعات السلفية الجهادية حاضرة باعتبارها أجسادا طيّعة ومذعنة. وهذا البناء الجديد للأنوثة على أساس أنّها مرتبطة بالبيتوتة، والتبعية ،والهشاشة، والافتقار للسلطة …في تونس التي عرفت بأنّها أول بلد يرسي منظومة تحمي حقوق النّساء ،ويمنع تعدّد الزوجات يوضّح لنا مدى قدرة هذه الجماعات المتشدّدة على التحكّم في عقول فئة من النّساء، ويكشف في ذات الوقت عن أزمة الرجولة في بلدان  بعد الثورات.

ومن خلال استغلال أجساد فئة من النّساء لمتعتهم الجنسيّة الخاصّة يرسّخ المقاتلون مرّة أخرى فكرة تسليع أجساد النّساء، وهم إذ يفعلون ذلك يفضحون مدى خوفهم من الخصاء . ونميل إلى الاعتقاد أنّ اتخاذ بعض الشبّان  قرار المشاركة في الحرب الدائرة في سوريا يتيح لهم فرصة اختبار بديل جديد ونمط آخر للرجولة.وهذه الجماعة من المنحرفين ،والسلفيين ،والسلفيين الجهاديين وغيرهم تمثّل في الواقع،الصورة المثلى للنمط الجديد للرجولة في تونس ،وهي رجولة قائمة على العضلات المفتولة ،والعنف، والاستقلالية، والصفاقة، والانتصار في الحرب المعلنة ضدّ الآخر.

الخاتمة

لم يكن موضوع جهاد النكاح من المواضيع المنتظرة في تونس حيث خرجت الجموع إلى الشوارع رافعة مطالب من شأنها أن تحقّق التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولكن في زمن الحرب كلّ شيء ممكن. لقد أحدث ‘الربيع العربي’  تحولات هامة في الخطابات العربيّة والغربية على حدّ سواء وفي المتخيّل الخاصّ بالذات وبالآخر. وبالعودة إلى هذه الفئة من النّساء التونسيات الراغبات في الاضطلاع بالأدوار التقليدية نتبيّن أنّهن يسعين إلى ترسيخ البطريكية في الفضاء الخاص والفضاء العام. كما أنّهن بصدد تجذير الهيمنة الذكورية  من جهة، وترسيخ منزلة المرأة الخاضعة ، من جهة أخرى.وهنّ إذ يفعلن ذلك يُعدن إنتاج الفضاء العمومي باعتباره فضاء لأداء الرجولة وممارستها. وعلى هذا الأساس  يمكن تفسير العنف الموجّه ضدّ النّساء في مرحلة الانتقال الديمقراطي .وتعرّف دونيز كانديوتي Deniz Kandiyoti هذا العنف الذي استشرى بعد الثورات ضدّ النّساء على أنّه” وسيلة لترميم الذكورة . إنّ العنف بما هو نتيجة للحضور النسائي الهامّ في الفضاء العمومي ليس إلاّ وسيلة ذكورية للتلاعب والضّغط حتى تعود النّساء للقيام بأدوارهن التقليدية التي يفرضها الدّين .[17]

وحتى نفهم لم شغفت هذه الفئة من التونسيات بممارسة جهاد النكاح؟ وكيف تنظر المجاهدات أو المؤازرات للإخوان إلى أجسادهن؟ وكيف يبنين ذواتهن؟ نرى أنّه من المفيد تحليل بعض صفحات الفايسبوك وبعض المدونات الخاصّة بالسلفيات التونسيات التي تظهر فيها هؤلاء تحت أسماء مستعارة، وموصولة إلى التراث كأم البراء، والخنساء أو تفتخر فيها الواحدة بأنّها”إرهابية وأفتخر”.  إنّ من أهم المواضيع التي تمثّل محور الناقش :الحرب ضدّ الكفّار،ورجال الشرطة ‘الطواغيت’ والأنظمة الكافرة التي لا تطبّق الشريعة .

   وبالإضافة إلى ما سبق تسعى السلفيات التونسيات إلى التماهى مع صورة الاستشهاديات كالفلسطينيات من حماس والشيشانيات وغيرهن ممن ضحّين بأنفسهن مشاركات بذلك في الجهاد. وهذا التماهي يثبت بما لا يدع مجالا للشكّ، أنّ الفتيات يرغبن في أن يتم الاحتفاء بهن مثل المجاهدين. إنّ بعض الفتيات شدّدن الرحال إلى سوريا، والبعض الآخر فضّلن ممارسة جهاد النكاح باعتبارها أنشطة تضمن لهن الثواب. وفي كلتا الحالتين نرى أنّ النّساء يتحولن من أدوار تنحو منحى المساواة والمرئية في الفضاء العامّ إلى أدوار جندرية تقليدية ،وينضممن إلى مؤسسة الحريم باعتبارها فضاء خاصّا . ويلوح أنّ  هذه الفئة من النّساء تثبت آخريتها من خلال الموروث الثقافي، والدّيني، وترسي هويتها السياسية باعتبارها خاضعة ولها أدوار ثانوية، وهي أيضا تابعة للرجال في الجهاد الذي يروم إعادة أمجاد الإسلام.

   ومهما يكن الأمر أكان جهاد النكاح ممارسة فعلىة في الواقع أم رواية مصنوعة فإنّ الموضوع لم يتحول إلى ممارسة قائمة الذات ومقبولة اجتماعياً. وقد أثبت المجتمع التونسي أنّه يقبل فتح النقاش العامّ، وتحليل ‘ظاهرة’ لم يكن أحد يتوقّع حدوثها. وتبقى المسألة المثيرة للانتباه أنّه بالرغم من التجارب الفظيعة التي مرّت بها النّساء اللواتي التحقن بأرض المعركة، وبالرغم من الإدانة الواسعة للموضوع فإنّ نساء أخريات: عربيات وكذلك من البلدان الأوروبيّة أبدين شغفا بممارسة جهاد النكاح.

[1] حمد بن على بن حجر العسقلاني،فتح الباري شرح صحيح البخاري، دارالريان للتراث،، سنة النشر: 1407هـ / 1986م ، باب النكاح، ص89.

[2] شرح النووي على مسلم،حديث رقم 1405 دار الخير، سنة النشر: 1416هـ / 1996م،ص4

http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?bk_no=53&ID=616&idfrom=4124&idto=4157&bookid=53&startno=3 

[3]المصدر نفسه حديث رقم 1217.

[4] Ben Salem Myriam، “Jihad As A Progressive Concept: The Case of The Tunisian Islamic Movement Al-Nahda”، in، La Violence PolitiqueenTunisie، published by Association Tunisienne D ‘Etudes Politiques، Tunis، June 2013، pp53-68.

[5] http://en.wikipedia.org/wiki/Sexual_jihad،(accessed 12-2-2015)

[6] Sara Daniel، TUNISIE. La vérité sur le “djihad sexuel” http://tempsreel.nouvelobs.com/l-enquete-de-l-obs/20131107.OBS4614/tunisie-la-verite-sur-le-djihad-sexuel.html(accessed 7-2-2015)

[7] Abid Zohra, Tunisie : Le «jihad nikah» oppose les imams au gouvernement, http://www.kapitalis.com/politique/18333-tunisie-le-jihad-nikah-oppose-les-imams-au-gouvernement.html(accessed 4-2-2015). See also http://tunisie14.tn/article/detail/jihad-nikah-au-maximum-une-quinzaine-de-tunisiennes-sont-allees-en-syrie-selon-le-mi

[8] http://www.tuniscope.com/article/25864/actualites/tunisie/t-t-confessions-545112

www.youtube.com/watch?v=onWv66_PrQs

VIDEO – Jihad Nikah: 6 Tunisiennes détenues par Hezbollah au Liban

[9] ابو قصي مجاهد تونسي عاد إلى تونس وروى في برنامج لاباس حقائق مرعبة -16- 3 2014

متاح بتاريخ 12-7-2015

[10] 1.000 Tunisiennes vouées au jihad nikah dans les camps d’Edleb en Syrie, http://www.kapitalis.com/societe/17848-1-000-tunisiennes-vouees-au-jihad-nikah-dans-les-camps-d-edleb-en-syrie.html (accessed 8-2-2015)

[11] http://www.dailymail.co.uk/news/article-2304128/Tunisian-girls-head-Syria-offer-Islamic-fighters-sexual-jihad.html

http://ar.webmanagercenter.com/2013/09/25/19088/%

[12] Avraham, Rachel، “Sexual Jihad is a reality in Syria،” http://www.portmir.org.uk/articles/wahhabism-s-sex-jihad.htm (accessed 9-2-2015)

[13] أحلام شهبون، الشيخ عثمان بطيخ: جهاد المناكحة ”بغاء” ..و دعوة للفساد ، 19 – 04 – 2013، متاح 22-5-2016

http://www.turess.com/aljarida/15491

[14] Tunisie : Le « jihad nikah» oppose les imams au gouvernement; http://www.kapitalis.com/politique/18333-tunisie-le-jihad-nikah-oppose-les-imams-au-gouvernement.html

[15] Burke, Colleen. “Women and Militarism.” http://wilpf.smilla.li/wpcontent/uploads/2012/10/Unknownyear_Women_and_Militarism.pdf(accessed 9-2-2015)

[16] تفسير ابن كثير،ص424.

http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura33-aya50.html

[17]  KANDIYOTI DENIZ،Fear and fury: women and post-revolutionary violence https://www.opendemocracy.net/5050/deniz-kandiyoti/fear-and-fury-women-and-post-revolutionary-violence (accessed 3-2-2015)

Exit mobile version